الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
وهو يوم عيد الفطر وكان في غاية البرودة والخمول عديم البهجة من كل شيء لم يظهر فيه من علامات الأعياد إلا فطر الصائمين ولم يغير أحد ملبوسه بل ولا فصل ثيابًا مطلقًا ولا شيئًا جديدًا ومن تقدم له ثوب وقطعه وفصله في شعبان تأخر عند الخياط مرهونًا على مصاريفه ولوازمه لتعطيل جمع الأسباب من بطانة وعقادة وغيرها حتى أنه إذا مات ميت لم يدرك أهله كفنه إلا بمشقة عظيمة وكسد في هذا العيد سوق الخياطين وما أشبههم من لوازم الأعياد ولم يعمل فيه كعك ولا شريك ولا سمك مملح ولا نقل ولم يخرجوا إلى الجبانات والمدافن أيضًا كعادتهم ولا نصبوا خيامًا على المقابر. ولم يحسن في هذه الحادثة إلا امتناع هذه الأمور وخصوصًا خروج النساء إلى المقابر فإنه لا يخرج منهن إلا بعض حرافيشهن على تخوف ووقع لبعضهن من العسكر ما وقع عند باب النصر والجامع الأحمر. وفي ثالثه نزل الباشا من القلعة من باب الجبل وهو في عدة من عسكر الدلاة والأتراك الخيالة والمشاة وصحبته عابدين بك وذهب إلى ناحية الآثار فعيد على يوسف باشا المنفصل عن الشام لأنه مقيم هناك لتغيير الهواء بسبب مرضه ثم عدى إلى الجيزة وبات بها عند صهره محرم بك ولما أصبح ركب السفائن وانحدر إلى شبرا وبات بقصره ورجع إلى منزله بالأزبكية ثم طلع إلى القلعة. وفي يوم الثلاثاء ثامنه عمل ديوانًا وجمع المشايخ المتصدرين وخاطبهم بقوله أنه يريد أن يفرج عن حصص الملتزمين ويترك لهم وساياهم يؤجرونها ويزرعونها لأنفسهم ويرتب نظامًا لأجل راحة الناس وقد أمر الأفندية كتاب الروزنامه بتحرير دفاتر وأمهلهم اثني عشر يومًا يحررون في ظرفها الدفاتر على الوجه المرضي فأثنوا عليه خيرًا ودعوا له فقال الشيخ الشنواني ونرجو من أفندينا أيضًا الإفراج عن الرزق الأحباسية كذلك فقال كذلك ننتظر في محاسبات الملتزمين ونحررها على الوجه المرضي أيضًا ومن أراد منهم أن يتصرف في حصته ويلتزم بخلاص ما تحرر عليها من المال الميري لجهة الديوان من الفلاحين بموجب المساحة والقياس صرفناه فيها وإلا أبقاها على طرفنا ويقبض فائظه الذي يقع عليه التحرير من الخزينة نقدًا وعدًا فدعوا له أيضًا وسكتوا فقال لهم تكلموا فإني ما طلبتكم إلا للمشاورة معكم فلم يفتح الله عليهم بكلمة يقولها أحدهم غير الدعاء له على أن الكلام ضائع لأنها حيل ومخادعة تروج على أهل الغفلات ويتوصل بها إلى إبراز ما يرومه من المرادات وعند ذلك انفض المجلس وانطلقت المبشرون على الملتزمين بالبشائر وهو الالتزام لتصرفهم ويأخذون منهم البقاشيش مع أن الصورة معلولة والكيفية مجهولة ومعظم السبب في ذكره ذلك أن معظم حصص الالتزام كان بأيدي العساكر وعظمائهم وزوجاتهم وقد انحرفت طباعهم وتكدرت أمزجتهم بمنعهم عنه وحجزهم عن التصرف ولم يسهل بهم ذلك فمنهم من كظم غيظه وفي نفسه ما فيها ومنهم من لم يطق الكتمان وبارز بالمخالفة والتسلط على من لا جناية عليه فلذلك الباشا أعلن في ديوانه بهذا الكلام بمسمع منهم لتسكن حدتهم وتبرد حرارتهم إلى أن يتم أمر تدبيره معهم. وفيه وصلت هجانة وأخبار ومكاتبات من الديار الحجازية بوقوع الصلح بين طوسون باشا وعبد الله بن مسعود الذي تولى بعد موت أبيه كبيرًا على الوهابية وأن عبد الله المذكور ترك الحروب والقتال وأذعن للطاعة وحقن الدماء وحضر من جماعة الوهابية نحو العشرين نفرًا من الأنفار إلى طوسون باشا ووصل منهم اثنان إلى مصر فكأن الباشا لم يعجبه هذا الصلح ولم يظهر عليه علامات الرضا بذلك ولم يحسن نزل الواصلين ولما اجتمعا به وخاطبهما عاتبهما على المخالفة فاعتذرا وذكرا أن الأمير مسعودًا المتوفي كان فيه عناد وحدة مزاج وكان يريد الملك وإقامة الدين وأما ابنه الأمير عبد الله فإنه لين الجانب والعريكة ويكره سفك الدماء على طريقة سلفه الأمير عبد العزيز المرحوم فإنه كان مسالمًا للدولة حتى أن المرحوم الوزير يوسف باشا حين كان بالمدينة كان بينه وبينه غاية الصداقة ولم يقع بينهما منازعة ولا مخالفة في شيء ولم يحصل التفاقم والخلاف إلا في أيام الأمير مسعود ومعظم الأمر للشريف غالب بخلاف الأمير عبد الله فإنه أحسن السير وترك الخلاف وأمن الطرق والسبل للحجاج والمسافرين ونحو ذلك من الكلمات والعبارات المستحسنات وانقضى المجلس وانصرفا إلى المحل الذي أمرا بالنزول فيه ومعهما بعض أتراك ملازمون لصحبتهما مع أتباعهما في الركوب والذهاب والإياب فإنه أطلق لهما الإذن إلى أي محل أراده فكانا يركبان ويمران بالشوارع بأتباعهما ومن يصحبهما ويتفرجان على البلدة وأهلها ودخلا إلى الجامع الأزهر في وقت لم يكن به أحد من المتصدرين للإقراء والتدريس وسألوا عن أهل مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وعن الكتب الفقهية المصنفة في مذهبه فقيل انقرضوا من أرض مصر بالكلية واشتريا نسخًا من كتب التفسير والحديث مثل الخازن والكشاف والبغوي والكتب الستة المجمع على صحتها وغير ذلك وقد اجتمعت بهما مرتين فوجدت منهما أنسًا وطلاقة لسان واطلاعًا وتضلعًا ومعرفة بالأخبار والنوادر ولهما من التواضع وتهذيب الأخلاق وحسن الأدب في الخطاب والتفقه في الدين واستحضار الفروع الفقهية واختلاف المذاهب فيها ما يفوق الوصف واسم أحدهما عبد الله والآخر عبد العزيز وهو الأكبر حسنًا ومعنى. وفي يوم السبت تاسع عشره خرجوا بالمحمل إلى الحصوة خارج باب النصر وشقوا به من وسط المدينة وأمير الركب شخص من الدلاة يسمى أوزون أوغلي وفوق رأسه طرطور الدالاتية ومعظم الموكب من عساكر الدلاة وعلى رؤسهم الطراطير السود بذاتهم المستشبعة وقد عم الإقليم المسخ في كل شيء فقد تغص الطبيعة وتتكدر النفس إذا شاهدت ذلك أو سمعت به وقد كانت نضارة الموكب السالفة في أيام المصريين ونظامها وحسنها وترتيبها وفخامتها وجمالها وزينتها التي لم يكن لها نظير في الربع المعمور ويضرب بها المثل في الدنيا كما قال قائلهم فيها مصر السعيدة ما لها من مثيل فيها ثلاثة من الهنا والسرور مواكب السلطان وبحر الوفا ومحمل الهادي نهار يدور فقد فقدت هذه الثلاثة في جملة المفقودات. وفي ثالث عشرينه وصل قابجي وعلى يده تقرير ولاية مصر لمحمد علي باشا على السنة الجديدة فعملوا لذلك الواصل موكبًا من بولاق إلى القلعة وضربوا مدافع وشنكًا وبنادق. في سادس عشره سافر الباشا إلى الإسكندرية وأخذ صحبته عابدين بك وإسمعيل باشا ولده وغيرهما من كبرائهم وعظمائهم وسافر أيضًا نجيب أفندي وسليمان أغا وكيل دار السعادة سابقًا تابع صالح بك المصري المحمدي إلى دار السلطنة وأصحب الباشا إلى الدولة وأكابرها الهدايا من الخيول والمهاري والسروج المكللة بالذهب واللؤلؤ والمخيش وتعابي الأقمشة الهندية المتنوعة من الكشمير والمقصبات والتحف ومن الذهب المضروب السكة أربعة قناطير ومن الفضة الثقيلة في الوزن والعيار عدة قناطير ومن السكر المكرر مرارًا وأنواع الشراب خافاه في القدور الصيني وغير ذلك. وفيه وردت الأخبار بوصول طوسون باشا إلى الطور فهرعت أكابرهم وأعيانهم إلى ملاقاته وأخذوا في الاهتمام وإحضار الهدايا والتقادم وركبت الخوندات والنساء والستات أفواجًا أفواجًا يطلعن إلى القلعة ليهنين والدته بقدومه. وفي غايته وصل طوسون باشا إلى السويس فضربوا مدافع إعلامًا بقدومه وحضر نجيب أفندي راجعًا من الإسكندرية لأجل ملاقاته لأنه قبي كتخدا اليوم أيضًا عند الدولة كما هو لوالده. في رابعه يوم الاثنين نودي بزينة الشارع الأعظم لدخول طوسون باشا سرورًا بقدومه فلما أصبح يوم الثلاثاء خامسه احتفل الناس بزينة الحوانيت بالشارع وعملوا له موكبًا حافلًا ودخل من باب النصر وعلى رأسه الطلخان وشعار الوزارة وطلع إلى القلعة وضربوا في ذلك اليوم مدافع كثيرة وشنكًا وحراقات. وفي ليلة الجمعة خامس عشره سافر طوسون باشا المذكور إلى الإسكندرية ليراه أبوه ويسلم هو عليه وليرى هو ولدًا له ولد في غيبته يسمى عباس بك أصحبه معه جده مع حاضنته وسنه دون السنتين يقال أن جده قصد إرساله إلى دار السلطنة فلم يمهل بأبيه ذلك وشق عليه ففارقه وخصوصًا كونه لم يره وسافر صحبة طوسون بك نجيب أفندي عائدًا إلى الإسكندرية. وفي يوم السبت عشرينه حضر طوسون باشا إلى مصر راجعًا من الإسكندرية في تطريدة ومعه ولده فكانت مدة غيبته ذهابًا وإيابًا ثمانية أيام فطلع إلى القلعة وصار ينزل إلى بستان بطريق بولاق ظاهر التبانة عمره كتخدا بك وبنى به قصرًا فيقيم به غالب الأيام التي أقامها بمصر وانقضت السنة وما تجدد فيها من استمرار المبتدعات والمكوس والتحكير وإهمال السوقة والمتسبيين حتى عم غلو الأسعار في كل شيء حتى بلغ سعر كل صنف عشرة أمثال سعره في الأيام الخالية مع الحجر على الإيراد وأسباب المعايش فلا يهنا يعيش في الجملة إلا من كان مكاسًا أو في خدمة من خدم الدولة مع كونه على خطر فإنه وقع لكثير ممن تقدم في منصب أو خدمة أنه حوسب وأهين وألزم بما رافعوه فيه وقد استهلكه في نفقات نفسه وحواشيه فباع ما يملكه واستدان وأصبح ميؤوسًا مديونًا وصارت المعايش ضنكًا وخصوصًا الواقع في اختلاف المعاملات والنقود والزيادة في صرفها وأسعارها واحتجاج الباعة والتجار والمتسببين بذلك وبما حدث عليها من مال المكس مع طمعهم أيضًا وخصوصًا سفلة الأسواق وبياعي الخضارات والجزارين والزياتين فإنهم يدفعون ما هو مرتب عليهم للمحتسب مياومة ومشاهرة ويخلصون أضعافه من الناس ولا رادع لهم بل يسعرون لأنفسهم حتى أن البطيخ في أوان كثرته تباع الواحدة التي كانت تساوي نصفين بعشرين وثلاثين والرطل من العنب الشرقاوي الذي كان يباع في السابق بنصف واحد يبيعونه يومًا بعشرة ويومًا بإثني عشر ويومًا بثمانية وقس على ذلك الخوخ والبرقوق والمشمش وأما الزبيب والتين واللوز والبندق والجوز والأشياء التي يقال لها اليميش التي تجلب من بلاد الروم فبلغت الغاية في الثمن بل قد لا يوجد في أكثر الأوقات وكذلك ما يجلب من الشام مثل الملبن والقمر الدين والمشمش الحموي والعناب وكذلك الفستق والصنوبر وغير ذلك ما يطول شرحه ويزداد بطول الزمان قله. ومات في هذه السنة العلامة الأوحد والفهامة الأمجد محقق عصره ووحيد دهره الجامع لأشتات العلوم والمنفرد بتحقيق المنطوق والمفهوم بقية الفصحاء والفضلاء المتقدمين والمتميز عن المتأخرين الشيخ محمد بن أحمد عرفة الدسوقي المالكي ولد ببلدة دسوق من قرى مصر وحضر إلى مصر وحفظ القرآن وجوده على الشيخ محمد المنير ولازم حضور دروس الشيخ علي الصعيدي والشيخ الدردير وتلقى الكثير من العقولات عن الشيخ محمد الجناجي الشهير الشافعي وهو مالكي ولازم الوالد حسنًا الجبرتي مدة طويلة وتلقى عنه بواسطة الشيخ محمد بن إسمعيل النفراوي علم الحكمة والهيئة والهندسة وفن التوقيت وحضر عليه أيضًا في فقه الحنفية وفي المطول وغيره برواق الجبرت بالأزهر وتصدر للإقراء والتدريس وإفادة الطلبة وكان فريدًا في تسهيل المعاني وتبيين المباني يفك كل مشكل بواضح تقريره ويفتح كل مغلق برائق تحريره ودرسه مجمع أذكياء الطلاب والمهرة من ذوي الأفهام والألباب مع لين جانب وديانة وحسن خلق وتواضع وعدم تصنع وإطراح تكلف جاريًا على سجيته لا يرتكب ما يتكلفه غيره من التعاظم وفخامة الألفاظ ولهذا كثر الآخذون عليه والمترددون إليه. ومات الأستاذ الفريد واللوذعي المجيد الإمام العلامة والنحرير الفهامة الفقيه النحوي الأصولي الجدلي المنطقي الشيخ محمد المهدي الحفني ووالده من الأقباط وأسلم هو صغيرًا دون البلوغ على يد الشيخ الحفني وحلت عليه أنظاره وأشرقت عليه أنواره وفارق أهله وتبرأ منهم وحضنه الشيخ ورباه وأحبه واستمر بمنزله مع أولاده واعتنى بشأنه وقرأ القرآن ولما ترعرع اشتغل بطلب العلم وحفظ أبا شجاع وألفية النحو والمتون ولازم دروس الشيخ وأخيه يوسف وغيرهما من أشياخ الوقت مثل الشيخ العدوي والشيخ عطية الأجهوري والشيخ الدرير والبيلي والجمل والخرشي وعبد الرحمن المقري والشرقاوي وغيرهم واجتهد في التحصيل ليلًا ونهارًا ومهر وأنجب ولازم في غالب مجالس الذكر عن الشيخ الدردير بعد وفاة الشيخ الحفني وتصدر للتدريس في سنة تسعين ومائة وألف ولما مات الشيخ محمد الهلباوي سنة اثنتين وتسعين جلس مكانه بالأزهر وقرأ شرح الألفية لابن عقيل ولازم الإلقاء وتقرير الدروس مع الفصاحة وحسن البيان والتفهم وسلاسة التعبير وإيضاح العبارات وتحقيق المشكلات وما أمره وذكره وبعد صيته ولم يزل أمره ينمو واسمه يسمو مع حسن السمت ووجاهة الطلعة وجمال الهيئة وبشاشة الوجه وطلاقة اللسان وسرعة الجواب واستحضار الصواب في ترداد الخطاب ومسايرة الأصحاب. وفارق الدنيا وأرسلوا إلى أولاده فحضر وأحملوه في تابوت إلى الدار الكبيرة بالمرسكي ليلًا وشاع موته وجهز وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل جدًا ودفن عند الشيخ الحنفي بجانب القبر فسبحان الحي الذي لا يموت. ومات الأستاذ العلامة والنحرير الفهامة الفقيه النبيه المهذب المتواضع الشيخ مصطفى بن محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الشهير بالصفوي القلعاوي الشافعي ولد في شهر ربيع الأول من سنة ثمان وخمسين ومائة وألف وتفقه على الشيخ الملوي والسحيمي والبراوي والحفني ولازم شيخنا الشيخ أحمد العروسي وانتفع عليه وأذن له في الفتيا عن لسانه وجمع من تقريراته واقتطف من تحقيقاته وألف وصنف وكتب حاشية على ابن قاسم الغزي على أبي شجاع في الفقه وحاشية على شرح المطول للسعد التفتازائي على التلخيص وشرح شرح السمرقندي على الرسالة العضدية في علم الوضع وله منظومة في آداب البحث وشرحها ومنظومة المتن التهذيب في المنطق وشرحها وديوان شعر سماه إتحاف الناظرين في مدح سيد المرسلين وعدة من الرسائل في معضلات المسائل وغير ذلك وكان سكنه بقلعة الجبل ويأتي في كل يوم إلى الأزهر للإقراء والإفادة فلما أمر الباشا سكان القلعة بإخلائها والنزول منها إلى المدينة فنزلوا إلى المدينة وتركوا دورهم وأوطانهم نزل المترجم مع من نزل وسكن بحارة أمير الجيوش جهة باب الشعرية ولم يزل هناك حتى تمرض أيامًا وتوفي ليلة السبت سابع عشري شهر رمضان وصلي عليه بالأزهر ودفن بزاوية الشيخ سراج الدين البلقبني بحارة بين السيارج رحمه الله تعالى فإنه كان من أحسن من رأينا سمتًا وعلمًا وصلاحًا وتواضعًا وانكسارًا وانجماعًا عن خلطة الكثير من الناس مقبلًا على شأنه راضيًا مرضيًا طاهرًا نقيًا لطيف المزاج جدًا محبوبًا للناس عفا الله عنه وغفر لنا وله. ومات الشيخ الفاضل الأجل الأمثل والوجيه المفضل الشيخ حسين بن حسن كناني بن علي المنصوري الحنفي تفقه على خاله الشيخ مصطفى بن سليمان المنصوري والشيخ محمد الدلجي والشيخ أحمد الفارسي والشيخ عمر الديركي والشيخ محمد المصيلي وأقرأ في فقه المذهب دروسًا في محل جده لأمه بالأزهر وسكن داره بحارة الحبانية على بركة الفيل مع أخيه الشيخ عبد الرحمن ثم انتقلا في حوادث الفرنساوية إلى حارة الأزهر ولما كانت حادثة السيد عمر مكرم النقيب من مصر إلى دمياط وكتبوا فيه عرضًا للدولة وامتنع السيد أحمد الطحطاوي من الشهادة عليه كما تقدم وتعصبوا عليه وعزلوه من مشيخة الحنفية قلدوها المترجم فلم يزل فيها حتى تمرض وتوفي يوم الثلاثاء تاسع عشري لمحرم وصلي عليه بالأزهر ودفن بتربة المجاورين رحمه الله وإيانا. ومات البليغ النجيب والنبيه الأريب نادرة الزمان وفريد الأوان أخونا ومحبنا في الله تعالى ومن أجله السيد إسمعيل بن سعد الشهير بالخشاب كان أبوه نجارًا ثم فتح له مخزنًا لبيع الخشب تجاه تكية الكلشني بالقرب من باب زويلة وولد له المترجم وأخوه إبراهيم ومحمد وهو أصغرهما فتولع السيد إسمعيل المترجم بحفظ القرآن ثم بطلب العلم ولازم حضور السيد علي المقدسي وغيره من أفاضل الوقت وأنجب في فقه الشافعية والمعقول بقدر الحاجة وتثقيف اللسان والفروع الفقهية الواجبة والفرائض وتنزل في حرفة الشهادة بالمحكمة الكبيرة لضرورة التكسب في المعاش ومصارف العيال وتمسك بمطالعة الكتب الأدبية والتصوف والتاريخ وأولع بذلك وحفظ أشياء كثيرة من الأشعار والمراسلات وحكايات الصوفية وما تكلموا فيه من الحقائق حتى صار نادرة عصره في المحاضرات والمحاورات واستحضار المناسبات والماجريات وقال الشعر الرائق ونثر النثر الفائق وصحب بسبب ما احتوى عليه من دماثة الأخلاق ولطف السرايا وكرم الشمائل وخفة الروح كثيرًا من رابا المظاهر والرؤساء من الكتاب والأمراء والتجار. ولم يزل المترجم على حالته ورقته ولطافته مع ما كان عليه من كرم النفس والعفة والنزاهة والتولع بمعالي الأمور والتكسب وكثرة الإنفاق وسكنى الدور الواسعة والحزم وكان له صاحب يسمى أحمد العطار بباب الفتوح توفي وتزوج هو بزوجته وهي نصف وأقام معها نحو ثلاثين سنة ولها ولد صغير من المتوفي فتبناه ورباه ورفهه بالملابس وأشفق به إضعاف والد بولده بلغ عمل له مهما وزوجته ودعا الناس إلى ولائمه وأنفق عليه في ذلك أنفاقًا كثيرة وبعد نحو سنة تمرض ذلك الغلام أشهرًا فصرف عليه وعلى معالجته جملة من المال ومات فجزع عليه جزعًا شديدًا ويبكي وينتحب وعمل له مأتمًا وعزاء واختارت أمه دفنه بجامع الكردي بالحسينية ورتبت وقراء واتخذت مسكنًا ملاصقًا لقبره وأقامت به نحو الثلاثين سنة مع دوام عمل الشريك والكعك بالعجمية والسكر وطبخ الأطعمة للمقرئين والزائرين ثم ملازمة الميت واتخاذ ما ذكر في كل جمعة على الدوام والمترجم طوع يدها في كل ما طلبته وما كلفته به تسخيرًا من الله تعالى وكل ما وصل إلى يده من حرام أو حلال فهو مستهلك عليها وعلى أقاربها وخدمها لا لذة له في ذلك حسية ولا معنوية لأنها في ذاتها عجوز شوهاء وهو في نفسه نحيف البنية ضعيف الحركة جدًا بل معدومها وابتلي بحصر البول وسلسه القليل مع الحرقة والتألم استدام بها مدة طويلة حتى لزم الفراش أيامًا وتوفي يوم السبت ثاني شهر الحجة الحرام بمنزله الذي استأجره بدرب قرمز بين القصرين وصلينا عليه بالأزهر في مشهد حافل ودفن عند ابنه المذكور بالحسينية وكثيرًا ما كنت أتذكر قول القائل ومن تراه بأولاد السوي فرحًا في عقله عزه إن شئت وانتدب أولاد صلب الفتي قلت منافعهم فكيف يلمح نفع الأبعد الجنب مع أنه كان كثير الانتقاد على غيره فيما لا يداني فعله وانقياده إلى هذه المرأة وحواشيها نسأل الله السلامة والعافية وحسن العافية كما قيل من تكملة ما تقدم فلا سرور سوى نفع بعافية وحسن ختم وما يأتي من الشغب وأمن نكر نكير القبر ثمة ما يكون بعد من الأهوال والتعب. واستهلت سنة 1231 استهل شهر المحرم بيوم السبت وحاكم مصر وصاحبها وأقطاعها وثغورها وكذلك بندر مكة وجدة والمدينة المنورة وبلاد الحجاز محمد علي باشا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ولاظ محمد الذي هو كتخدابك قائم مقامه هو المتصدر لإجراء الأحكام بين الناس عن أمر مخدومه وإبراهيم آغا آغات الباب والدفتردار محمد أفندي صهر الباشا والروزنامجي مصطفى أفندي تابع محمد أفندي باش جاكرت سابقًا وغيطاس أفندي سرجي وسليمان أفندي الكماخي باشمحاسب ورفيقه أحمد أفندي باش زعيم مصر وهو الوالي وآغات التبديل أحمد آغا وهو أخو حسن آغا قلفة وصالح بك السلحدار وحسن آغا آغات الينكجرية وعلي آغا الشعراوي المذكور وكاتب الخزينة ولي خوجه ورئيس كتبة الأقباط المعلم غالي وأولاد الباشا إبراهيم باشا حاكم الصعيد وطوسون باشا فاتح بلاد الحجاز وإسماعيل باشا ببولاق ومحرم بك صهر الباشا أيضًا على ابنته بالجيزة أحمد آغا المعروف ببونابارته الخازندار وباقي كشاف الأقاليم وأكابر أعيانهم مثل دبوس أوغلي وحسن باشا وحسن آغا شرششمه وحجو بك وخلافهم. وفي ذلك اليوم قبض كتخدا بك على المعلم غالي وأمر بحبسه وكذلك أخوه المسمى فرنسيس وخازنداره المعلم سمعان وذلك عن أمر مخدومه من الاسكندرية لأنه حول عليه الطلب بستة آلاف كيس تأخر أداؤها إياه من حسابه القديم فاعتذر بعدم القدرة على أدائها في الحين لأنها بواقي على أربابها وهو ساع في تحصيلها ويطلب المهلة إلى رجوع الباشا من غيبته فأرسل الكتخدا بمقالته واعتذاره إلى الباشا وانتبذ طائفة من الأقباط في الحط على غالي مع الكتخدا وعرفوه أنه إذا حوسب يطهر عليه ثلاثون ألف كيس فقال لهم وإن لم يتأخر عليه هذا القدر تكونوا ملزومين به إلى الخزينة فأجابوه إلى ذلك فأرسل يعرف الباشا بذلك فأرسل الأمر بالقبض عليه وعلى أخيه وخازنداره وحبسهم وعزله ومطالبته بستة آلاف كيس القديمة أولًا ثم حسبه بعد ذلك فأحضر المرافعين عليه وهم المعلم جرجس الطويل ومنقريوس البنتوني وحنا الطويل وألبسهم خلعًا على رياسة الكتاب عوضًا عن غالي ومن يليه واستمر غالي في الحبس ثم أحضره مع أخيه وخازنداره فضربوا أخاه أمامه ثم أمر بضربه فقال وأنا ضرب أيضًا قال نعم ثم ضربوه على رجليه بالكرابيج ورفع وكرر عليه الضرب وضرب سمعان ألف كرباج حتى أشرف على الهلاك ووجدوا في جيبه ألف شخص بندقي ومائتي محبوب عنها اثنان وعشرون ألف قرش ثم بعد أيام أفرجوا عن أخيه وسمعان ليسعيا في التحصيل وهلك سمعان واستمر غالي في السجن وقد رفعوا عنه وعن أخيه العقاب لئلا يموتا. وفي عاشره رجع الباشا من غيبته من الاسكندرية وأول ما بدأ به إخراج العساكر مع كبرائهم إلى ناحية بحري وجهة البحيرة والثغور فنصبوا خيامهم بالبر الغربي والشرقي تجاه الرحمانية واستهل شهر صفر الخير سنة 1231 فيه تشفع جوني الحكيم في المعلم غالي وأخذه من الحبس إلى داره والعساكر مستهلون في التشهيل والخروج وهم لا يعلمون المراد بهم وكثرت الروايات والأخبار والإيهامات والظنون ومعنى الشعر في بطن الشاعر. واستهل شهر ربيع الأول سنة 1231 فيه سافر طوسون باشا وأخوه إسماعيل باشا إلى ناحية رشيد ونصبوا عرضيهما عند الحماد وناحية أبي منضور وحسين بك دالي باشا وخلافه مثل حسن آغا زجنلي ومحو بك وصارى جله وحجو بك جهة البحيرة وكل ذلك تواطين وتلبيس للعساكر بكونه إخراج حتى أولاده العزاز للمحافطة وكذلك الكثير من كبرائهم إلى جهة البحر الشرقي ودمياط. وفي ثاني عشره صبيحة المولد النبوي طلب الباشا المشايخ فلما جلسوا مجلسهم وفيهم الشيخ البكري أحضروا خلعة وألبسوها له على منصب نقابة الأشراف عوضًا عن السيد محمد المحروقي وفاوضه في ذلك ورأى أن يقلده إياه فاعتذر السيد محمد المحروقي واستعفى وقال أنا متقيد بخدمة أفندينا ومهمات المتاجر والعرب والحجاز فقال قد قلدتك إياها فأعطها لمن شئت فذكرانها كانت مضافة للشيخ البكري وهو أولى من غيره فلما حضروا وتكاملوا لبسوه الخلعة واستوصب الجماعة ذلك وانصرفوا وفي الحال كتب فرما بإخراج الدواخلي منفيًا إلى قرية دسوق فنزل إليه السيد أحمد الملا الترجمان وصحبته قواس تركي وبيده الفرمان فدخلوا إليه على حين غفلة وكان بداخل حريمه لم يشعر بشيء مما جرى فخرج إليهم فأعطوه الفرمان فلما قرأه غاب عن حواسه وأجاب بالطاعة وأمروه بالركوب فركب بغلته وسارا به إلى بولاق إلى المنزل الذي كان شراه بعد موت ولده والشيخ سالم الشرقاوي وانسل مما كان فيه كانسلال الشعرة من العجين وتفرق الجمع الذي كان حوله وشرع الأشياخ في تنميق عرضحال عن لسانهم بأمر الباشا بتعداد جنايات الدواخلي وذنوبه وموجبات عزله وإن ذلك بترجيهم والتماسهم عزله ونفيه ويرسل ذلك العرضحال لنقيب الأشراف بدار السلطنة لأن الذي يكون نقيبًا بمصر نيابة عنه ويرسل إليه الهدية في كل سنة فالذي نقموه عليه من الذنوب أنه تطاول على حسين أفندي شيخ رواق الترك وسبه وحبسه من غير جرم وذلك أنه اشترى منه جارية حبشية بقدر من الفراسة فلما أقبضه الثمن أعطاه بدلها قروشًا بدون الفرط الذي بين المعاملتين فتوقف السيد حسين وقال أما تعطيني العين التي وقع عليهم الانفصال أو تكمل فرط النقص وتشلحنا وأدى ذلك إلى سبه وحبسه وهو رجل كبير متضلع ومدرس وشيخ رواق الأتراك بالأزهر وهذه القضية سابقه على حادثة نفيه ومنها أيضًا أنه تطاول على السيد منصور اليافي بسبب فتيا رفعت إليه وهي أن امرأة وقفت وقفًا في مرض موتها وأفتي بصحة الوقت على قول ضعيف فسبه في ملأ من الجمع وأراد ضربه ونزع عمامته من أعلى رأسه. ومنها أيضًا أنه يعارض القاضي في أحكامه وينقص محاصيله ويكتب في بيته وثائق قضايا صلحًا ويسب أتباع القاضي ورسل المحكمة ويعارض شيخ الجامع الأزهر في أموره ونحو ذلك وعندما سطروه وتمموه وضعوا عليه ختومهم وأرسلوا إلى إسلامبول على أن جناياته عند الباشا ليست هذه النكات الفارغة بل ولا علم له بها ولا التفات وإنما هي أشياء وراء ذلك كله ظهر بعضها وخفي عنا باقيها وذلك أن الباشا يحب الشوكة ونفوذ أوامره في كل مرام ولا يصطفي ويحب الأمن لا يعارضه ولو في جزئية أو يفتح له بابًا يهب منه ريح الدراهم والدنانير أو يدله على ما فيه من كسب وربح من أي طريق أو سبب من أي ملة كان ولما حصلت واقعة قيام العسكر في أواخر السنة الماضية وأقام الباشا بالقلعة يدبر أمره فيهم وألزم أعيان المتظاهرين الطلوع إليه في كل ليلة وأجل المتعممين الدواخلي لكونه معدودًا في العلماء ونقيبًا على الأشراف وهي رتبة الوالي عند العثمانيين فداخله الغرور وظن أن الباشا قد حصل في ورطة يطلب النجاة منها بفعل القربات والندور ولكونه رآه يسترضي خواطر الرعية المنهوبين ويدفع لهم أثمانها ويستميل كبار العساكر وينعم عليهم بالمقادير الكثيرة من أكياس المال ويسترسل معه في المسامرة والمسايرة ولين الخطاب والمذاكرة والمضاحكة فلما رأى إقبال الباشا عليه زاد طمعه في الاسترسال معه فقال له الله يحفظ أفندينا وينصره على أعدائه والمخالفين له ونرجو من إحسانه بعد هدوء سره وسكون هذه الفتنة أن ينعم علينا ويجرينا على عوائدنا في الحمايات والمسامحات بخصوص ما يتعلق بنا من حصص الالتزام والرزق فأجابه بقوله نعم يكون ذلك ولابد من الراحة لكم ولكافة الناس فدعا له وآنس فؤاده وقال الله تعالى يحفظ أفندينا وينصره على أعدائه كذلك يكون تمام ما أشرتم به من الراحة لكافة الناس الإفراج عن الرزق الأحباسية على المساجد والفقراء فقال نعم ووعده مواعيده العرقوبية فكان الدواخلي إذا نزل من القلعة إلى داره يحكي في مجلسه ما يكون بينه وبين الباشا من أمثال هذا الكلام ويذيعه في الناس ولما أمر الباشا الكتاب بتحرير حساب الملتومين على الوجه المرضي بديوان خاص لرجال دائرة الباشا وأكابر العسكر وذلك بالقلعة تطييبًا لخواطرهم وديوان آخر في المدينة لعامة الملتزمين فيحررون للخاصة بالقلعة ما في قوائم مصروفهم وما كانوا يأخذونه من المضاف والبراني والهدايا وغير ذلك والديوان العام التحتاني بخلاف ذلك فلما رأى الدواخلي ذلك الترتيب قال للباشا وأنا الفقير محسوبكم من رجال الدائرة فقال نعم وحرروا قوائمه مع الأكابر وأكابر الدولة وأنعم عليه الباشا بأكياس أيضًا كثيرة زيادة على ذلك فلما راق الحال ورتب الباشا أموره مع العسكر أخذ يذكر الباشا بإنجاز الوعد ويكرر القول عليه وعلى كتخدا بك بقوله أنتم تكذبون علينا ونحن نكذب على الناس وأخذ يتطاول على كتبة الأقباط بسبب أمور يلزمهم ويكلفهم بإتمامها وعذرهم يخفى عنه في تأخيرها فيكلمهم بحضرة الكتخدا ويشتمهم ويقول لبعضهم أما اعتبر ثم بما حصل للعين غالي فيحقدون عليه ويشكون منه للباشا والكتخدا وغير ذلك أمور مثل تعرضه للقاضي في قضاياه وتشكيه منه واتفق أنه لما حضر إبراهيم باشا من الجهة القبلية وكان بصحبته أحمد جلبي بن ذي الفقار كتخدا الفلاح وكأنه كان كتخداه بالصعيد وتشكت الناس من أفاعله وإغوائه إبراهيم باشا فاجتمع به الدواخلي عند السيد محمد المحروقي وحضر قبل ذلك إليه للسلام عليه وفي كل مرة يوبخه بالكلام ويلومه على أفاعيله بالقول الخشن في ملأ من الناس فذهب إلى الباشا وبالغ في الشكوى ويقول فيها أنا نصحت في خدمة أفندينا جهدي وأظهرت من المخبآت ما عجز عنه غيري فأجازي عليه من هذا الشيخ ما أسمعنيه من قبيح القول وتجبيهي بين الملأ وإذا كان محبًا لأفندينا فلا يكره نفعه ولا النصح في خدمته وأمثال ذلك مما يخفي عنا خبره فمثل هذه الأمور هي التي أوغرت صدر الباشا على الدواخلي مع أنها في الحقيقة ليست خلافًا عند من فيه قابلية للخير وأنا أقول أن الذي وقع لهذا الدواخلي إنما هو قاصا وجزاء فعله في السيد عمر مكرم فإنه كان من أكبر الساعين عليه إلى أن عزلوه وأخرجوه من مصر والجزاء من جنس العمل كما قيل: فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا ولما جرى على الدواخلي ما جرى من العزل والنفي أظهر الكثير من نظرائه المتفقهين الشماتة والفرح وعملوا ولائم وعزائم ومضاحكات كما يقال. أمور تضحك السفهاء منها ويبكي من عوافبها اللبيب وقد زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس وانهمكوا في الأمور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية ومشاركة الجهال في المآثم والمسارعة إلى الولائم في الأفراح والمآتم يتكالبون على الأسمطة كالبهائم فتراهم في كل دعوة ذاهبين وعلى الخوانات راكعين وللكباب والمحمرات خاطفين وعلى ما وجب عليهم من النصح تاركين. وفي أواخره شرعوا في عمل مهم عظيم بمنزل ولي أفندي ويقال له ولي جحا وهو كاتب الخزينة العامرة وهو من طائفة الأرنؤد واختص به الباشا واستأمنه على الأمور وضم إليه دفاتر الإيراد من جميع وجوه جبايات الأموال من خراج البلاد والمحدثات وحسابات المباشرين وأنشأ دارًا عظيمة بخطة باب اللوق على البركة المعروفة بأبي الشوارب وأدخل فيها عدة بيوت بجانبها وتجاهها على نسق واصطلاح الأبنية الإفرنجية والرومية وتأنق في زخرفتها واتساعها واستمرت العمارة بها على نحو السنتين ولما كملت وتمت أحضروا القاضي والمشايخ وعقدوا لولديه على ابنتين من أقارب الباشا بحضرة الأعيان ومن ذكر واحتفلوا بعمل المهم احتفالًا زائدًا وتقيد السيد محمد المحروقي بالمصاريف والتنظيم واللوازم كما كان في أفراح أولاد الباشا واجتمعت الماعيب والبهلوانات بالبركة وما حولها وبالشارع وعلقوا تعاليق قناديل ونجفات وأحمال بلور وزينات واجتمع الناس للفرجة وبالليل حراقات ونفوط ومدافع وسواريخ سبع ليلا متوالية وعملت الزفة يوم الخميس واجتمعت العربات لأرباب الحرف كما تقدم في العام الماضي بل أزيد وذلك لأن الباشا لم يشاهد أفراح أولاده لكونه كان غائبًا بالديار الحجازية وحضر الباشا للفرجة وجلس بمدرسة الغورية بقصد الفرجة وعمل له السيد محمد المحروقي الغداء وخرجوا بالزفة أوائل النهار وداروا بها دورة طويلة فلم يمروا بسوق الغورية إلا قريب الغروب أواخر النهار. واستهل
|